ما هي التغييرات التي طرأت على حالة حقوق الإنسان لدى فلسطينيّي الضّفّة الغربيّة والقدس الشّرقيّة؟
لأوّل وهلة، يبدو أنّه ورغم مرور 49 عامًا، ما زالت حال الفلسطينيّين السّاكنين في الأراضي المُحتلّة في شهر حزيران من العام 1967 هي ذاتها، وأنّه لم يحصل أيّ تغيير طوال العقود الأخيرة. فعناوين الصّحف يوم أمس هي ذاتها عناوين الصّحف اليوم: مواجهات، اعتقالات، حُكم عسكريّ، اعتداءات، هدم منازل، مصادرة أراضٍ. إذا ألقينا نظرة خاطفة، لقلنا أنّ لا جديد تحت شمس الشّرق الأوسط الحارقة.
إلّا أنّ نظرة أكثر تعمّقًا قد ترسم لنا سبلًا وشقوقًا جديدة على خارطة الواقع المعروفة لنا. فهناك عناوين جديدة أُضيفت مع مرور السّنين: مستوطنات وبؤر استيطان. سُلطة فلسطينيّة. فكّ الارتباط من غزّة. جدار الفصل. الحواجز والتّصاريح. الشّوارع الممنوعة.
تتغيّر السّيطرة الإسرائيليّة على المناطق المُحتلّة مع مرور الوقت، فتتوسّع وتلبس حلّة جديدة كلّ مرّة. بعد مرور ثلاثة عقود تقريبًا على سيطرة إسرائيليّة حصريّة على الأراضي، أُقيمت السّلطة الفلسطينيّة، وبعد ذلك بعقد واحد ضربت سيطرة حماس جذورًا في قطاع غزّة. لكن حتّى بوجود هذه التّغييرات، ظلّت السّيطرة الإسرائيليّة على الحيّز الواقع بين نهر الأردن والبحر هي القوّة الأهمّ والأكثر تأثيرًا في الحياة اليوميّة لجميع الأشخاص الذين يسكنون في هذا الحيّز. هذه القوّة والسّيطرة البالغة التي تملكها إسرائيل يُلقي عليها أيضًا مسؤوليّة كبيرة.
تنشر جمعيّة حقوق المواطن هذا المُستند مع بداية العام الـ 50 على احتلال الأراضي الفلسطينية. يرسم هذا المُستند التّغييرات التي حوّلت الأراضي المُحتلّة إلى منطقة مُقسّمة ومُجزأة، فيها درجات وأشكال مُتعدّدة من السّيطرة الإسرائيليّة، وهو ما يؤدّي إلى انتهاك حقوق الإنسان الأساسيّة لملايين الأشخاص بشكل مُمنهج. إنّها سيطرة دون حقوق إنسان، قائمة منذ 49 عامًا.
تجزئة الأراضي المُحتلّة
نميل إلى الحديث عن “الأراضي المُحتلّة” وكأنّها مساحة أو وحدة معروفة ومُحدّدة. لكن في العقود الخمس التي انقضت منذ العام 1967، طرأ على الأراضي تجزيئًا فظيعًا، أدّى إلى إلحاق ضرر بالغ بالسّكان الفلسطينيّين على الصّعيد الفرديّ، والجماهيريّ والقوميّ:
فقد ضُمَّت القدس الشّرقيّة رسميًّا من قبل إسرائيل منذ شهر حزيران من العام 1967، وذلك بانتهاك للقانون الدّولي ودون إعطاء سكّان المدينة حقوقهم كاملة. وأدّت السّياسة الإسرائيليّة التي بُلوِرَت في شرقيّ المدينة إلى عزل القدس الشّرقيّة وانهيارها، بعد أن كانت في الماضي موطن قوّة اقتصاديّة، وسياسيّة، واجتماعيّة ودينيّة.
إضافة إلى الضّم القانونيّ، الذي فرّق القدس الشّرقيّة عن الضّفّة الغربيّة، بُني قبل عقد من الزّمن فاصل حقيقيّ بين القدس والضّفّة وذلك بهيئة جدار الفصل. يفصل مسار الجدار الإسمنتيّ بين المجموعات السّكانيّة ويقطع التّواصل الطّبيعيّ للمجموعة السّكانيّة الفلسطينيّة في القدس عن تلك المجموعات المُحيطة بها.
إنّ توسّع مشروع الاستيطان تدريجيًّا، إضافة إلى شقّ طرق تؤدّي إلى المُستوطنات وبؤر الاستيطان، أدّيا إلى خلق فضاءات كاملة جديدة في الضّفّة الغربيّة والقدس، لا يُسمح للفلسطينيّين فيها بأن يتحرّكوا أو يسكنوا، أو قد يُسمح لهم ذلك بشكل مقلّص جدًّا، في حين أنّ إمكانيّة وصول المواطنين الإسرائيليّين إلى هناك متاحة. جرت وتجري هذه الخطوة أيضًا بما يتنافى والقانون الدّوليّ.
كذلك، أُنتِجَت فضاءات مُغلقة أخرى في الضّفّة والقدس أُقصي منها الفلسطينيّون، وذلك بواسطة الإعلان عن مختلف المناطق أنّها مناطق إطلاق نار بهدف التّدريبات العسكريّة، أو مناطق عسكريّة مُغلقة، أو مواقع أثريّة أو حدائق وطنيّة. تُجبِر هذه الخطوات المُجتمعات الفلسطينيّة على العيش تحت نظام من التّحريمات ولا تُتيح إدارة حياة طبيعيّة وتؤدّي إلى إخلاء قسريّ أو إجباريّ لعائلات وجماهير كثيرة.
جلبت اتّفاقيّة أوسلو تغييرات جذريّة بخصوص تقسيم الضّفّة إلى مناطق ’أ‘، ’ب‘ و ’ج‘ وإنشاء السُّلطة الفلسطينيّة. جرى التّقسيم بحسب خطوط جغرافيّة مُصطنعة تفصل بين مناطق متّصلة في ما بينها في الواقع، مثل الطّرق المؤدّية من المدن الكبرى إلى القرى المُجاورة لها. في مدينة الخليل، التي يقع جزء منها تحت السّيطرة الفلسطينيّة ويقع الجزء الآخر تحت السّيطرة الإسرائيليّة، يمكننا أن نشعر بالعواقب السّلبيّة لهذا التّجزيء. سكّان غور الأردن يعانون هم أيضًا من التّبعات الصّعبة التي صاحبت السّياسة الإسرائيليّة بفصل هذه المنطقة عن سائر أقسام الضّفّة الغربيّة. ويجري الفصل الأكثر تطرّفًا حاليًّا في قطاع غزّة (وكون هذه المنطقة فريدة، فقد خصّصنا لها قسمًا في نهاية هذا المُستند).
أدّى إنشاء السّلطة الفلسطينيّة إلى تغيير نِطاق صلاحيّات السّلطات الإسرائيليّة وطبيعتها، وعلى رأس هذه السّلطات – الجيش. مع ذلك، وبما أنّ صلاحيّات السّلطة وقوّتها محدودتان، فحتّى في المناطق التي تعمل السّلطة بها ما زال هناك قدر كبير من السّيطرة الكامنة بين أيدي القائد العسكريّ.
بناء جدار الفصل في داخل الأراضي المُحتلّة مع بداية القرن الحاليّ أدّى إلى تجزيء إضافيّ لهذه الأراضيّ، إذ خلق الجدار جيوبًا فلسطينيّة معزولة وسمح بتوسّع المُستوطنات برعاية حجج أمنيّة. على طول الجدار أنشِئت حواجز وبوّابات، يمرّ عبرها الإسرائيليّون بحرّيّة، إلّا أنّ مرور الفلسطينيّين عبرها محدود أو ممنوع، حتّى عندما تكون تحرّكاتهم داخل الأراضي المُحتلّة ذاتها (لا من أجل الدّخول إلى إسرائيل). إلى غرب الجدار وإلى شرق الخطّ الأخضر، نشأت “منطقة التّماس”، والتي يستطيع الإسرائيليّون والأجانب أن يتحرّكوا فيها بحرّيّة، في حين أنّ إمكانيّة وصول الفلسطينيّين إليها للسّكن هناك أو للعمل في الأراضي محدودة ومُعقّدة. حتّى أولئك الذين سكنوا طيلة حياتهم في تلك المناطق اضطرّوا إلى مواجهة نظام تصاريح بيروقراطيّ مُعقّد ينطوي على المهانة والعُنف.
إنّ التّحّكم بحركة الفلسطينيّين على طول خطوط التّماس بين المناطق المختلفة يُشكّل الانشغال المركزيّ للجيش، وجهاز الأمن العامّ، والشّرطة، ووزارة الدّاخليّة وسلطات إضافيّة. وقد “طوّرت” التّحديثات التّكنولوجيّة إمكانيّات التّحكّم في دواخل الضّفّة، وعند المداخل إلى المُستوطنات، وبين الجدار والخطّ الأخضر، وفي منطقة التّماس بين القدس الشّرقيّة والغربيّة، وبين الضّفّة والقدس، وبين قطاع غزّة والضّفّة وإسرائيل. مع مرور السّنوات، توسّعت العقوبات والاعتقالات المفروضة على كلّ من يُقبض عليه دون التّصاريح اللّازمة، وعلى كلّ من يوفّر له المأوى أو يقلّه. ويزداد هذا التّحكّم في فترات التّصعيد. أحيانًا، هناك خطوات جديدة تُتّخذ أثناء هذه الفترات لكنّها تبقى سارية المفعول حتّى بعد هدوء العاصفة. هذا ما جرى، مثلًا، بخصوص أوامر السّاعة التي تُعنى بقانون المواطنة والدّخول إلى إسرائيل، والذي سُنّ في أيّام أوج الانتفاضة الثّانية بهدف تقليص لمّ شمل العائلات الموزّعة على طرفي الخطّ الأخضر. كان من المُفترض أن تكون هذه الأوامر مؤقّتة، إلّا أنّ تحديثها يجري الآن عامًا تلو الآخر، فيحوّل آلاف الفلسطينيّين الذين يعيشون في إسرائيل والقدس إلى سكّان غير قانونيّين، أو سكّان يعتمدون على تصاريح إسرائيليّة من أجل التّحرّك والسّكن في منازلهم.
إنّ تقسيم الأراضي المُحتلّة والتّحكّم الذي يرافق هذا التّقسيم ينطوي على عواقب وَخِيمة تطال حرّيّة حركة الفلسطينيّين وسلسلة أخرى من الحقوق المُشتقّة من حرّيّة التّنقّل، ومن بينها الحقّ في حياة عائليّة، والحقّ في الصّحّة وسلامة الجسد والحقّ في التّربية. الاقتصاد والتّجارة الفلسطينيّان هما رهن القرارات اليوميّة التي يتّخذها القادة العسكريّون، الذين يقرّرون بشأن إتاحة أو عدم إتاحة مرور البضائع والأشخاص وبشأن كيفيّة المرور، وبشأن فرض أو عدم فرض تقييدات على تطوّر مُختلف القطاعات، وما إلى ذلك. تؤدّي هذه التّحريمات المختلفة التي يفرضها الجيش إلى توسيع دوائر الفقر والعجز.
الضّمّ الزّاحف
إنّ السّيطرة العسكريّة الكاملة على مناطق ’ج‘، والتي تشكّل حوالي %60 من مساحة الضّفّة، إضافة إلى فرض القانون الإسرائيليّ على القدس الشّرقيّة، أنتجا مناطق يعيش فيها فلسطينيّون وإسرائيليّون تحت سلطة إسرائيليّة مُباشرة. مع مرور الزّمن، طُوِّرَت أدوات سياسيّة متنوّعة بهدف زيادة السّيطرة الإسرائيليّة على تلك المناطق، بطريقة تُتيح إبعاد الفلسطينيّين عن المناطق التي تهمّ إسرائيل إلى مناطق لا تهتمّ إسرائيل بالسّيطرة عليها أو ضمّها.
تتمّ عمليّة ترحيل الفلسطينيّين من مناطق مختلفة في الضّفّة والقدس بشكل أساسيّ بواسطة سياسة عِمادها الرّفض العنيد لتعزيز التّخطيط والتّطوير في تلك المناطق، أو لربط المجموعات السّكانيّة والأحياء الفلسطينيّة بشبكة المياه، أو للسّماح للسّكّان بالوصول إلى أراضيهم الزّراعيّة، أو لتطوير مناطق صناعيّة وغيرها من الأمور. وترافق هذه التّقييدات أعمال تعسّفيّة، كهدم المنازل التي بُنيت دون ترخيص، ومصادرة معدّات، وطمّ آبار المياه، وسدّ الطّرقات، وتكثيف الحضور العسكريّ ووجود الشّرطة.
يُتيح نظاما القانون المُنفصلان اللّذان طوّرا في ظلّ الحكم العسكريّ -نظام للفلسطينيّين وآخر للمستوطنين- وجود إطار قانونيّ يسمح باتّخاذ هذه الخطوات في الضّفّة الغربيّة؛ وفي القدس الشّرقيّة، يتيح القانون الإسرائيليّ المفروض اتّخاذ خطوات مُشابهة. إلى جانب إبعاد الفلسطينيّين، تفرض السّلطات في أراضي المنطقة ’ج‘ وفي القدس الشّرقّيّة قوانينَ التّخطيط والبناء ذاتها، لكن بشكل يسمح فقط بتطوّر وازدهار البلدات، والأحياء، والمساحات الزّراعيّة بما يخدم الجماهير الإسرائيليّة.
في العقد الأخير، تكثّفت الجهود السّاعية إلى إحكام السّيطرة والرّوابط بين المنطقة ’ج‘ وإسرائيل، وذلك بواسطة خطوات تُسمّى باسم الضّمّ الزّاحف، الضّمّ الفعليّ أو الضّمّ القضائيّ؛ فقد أقرّت لجنة أنشئت بمبادرة حكوميّة، والتي ترأسها القاضي السّابق في المحكمة العليا إدموند ليفي، أنّ الضّفّة ليست إقليمًا مُحتلًّا، وعليه فإنّ المُستوطنات قانونيّة، واقترحت اللّجنة كذلك سياسة لتثبيت وقوننة البناء في المستوطنات والبؤر الاستيطانية. في الكنيست وفي الحكومة، نوقشت عدّة مبادرات تنادي بتطبيق مباشر لقوانين دولة إسرائيل على الأراضي المُحتلّة، وقد أعلنت وزيرة العدل مؤخّرًا عن إنشاء طاقم مُشترك بين وزارة العدل ووزارة الأمن لمناقشة القضيّة. كذلك، قدّم عدد من أعضاء الكنيست اقتراحات قانون لتطبيق قوانين مُعيّنة لا تُطبّق حاليًّا وراء الخطّ الأخضر، ومن بينها قانون التّخطيط والبناء، وقانون عمل الشبان، وقانون عمل النّساء.
أحيانًا، في إطار الضّمّ الزّاحف، هناك خطوات تُصبح ممكنة بفضل هيئات إسرائيليّة تُقام في الضّفّة كـ “نظيرة” لمؤسّسات داخل إسرائيل. من المفترض أن تكون هذه الهيئات تابعة لصلاحيّة القائد العسكريّ، لكنّها في الواقع مُستقلّة. على سبيل المثال، جرى تحويل كلّيّة أريئيل إلى جامعةٍ، وذلك بما يتنافى مع رأي مجلس التّعليم العالي في إسرائيل، من خلال إعلان “مجلس التّعليم العالي – يهودا والسّامرة”، وهي هيئة خاضعة للقائد العسكريّ.
في الغالب، تُعرض هذه الخطوات على أنّها خطوات تهدف إلى تحسين حياة المُستوطنين وإلى ضمان حقوقهم، بطريقة لا علاقة لها بالمجموعة السّكانيّة الفلسطينيّة قطّ. أمّا في الواقع، فجميع هذه الأمور محبوكة، فيكون نتاج تحقيق مصالح إسرائيل في الأراضي المُحتلّة المُزمع ضمّها هو إلحاق ضرر بالغ بحقوق الإنسان للفلسطينيّات والفلسطينيّين. فإقامة مستوطنة جديدة أو توسيع مُستوطنة قائمة قد يؤدّي إلى مُصادرة أراضٍ بإجراءات رسميّة وإلى منع الفلسطينيّين فعليًّا من الوصول إلى أراضيهم وإلى الموارد الطّبيعيّة المحلّيّة؛ وإلى إغلاق المدخل الرّئيسيّ لقرية فلسطينيّة وإجبار سكّانها على السّفر بطرق جانبيّة بديلة؛ وإلى حضور عسكريّ مُكثّف، ومواجهات مُتكرّرة مع الجيش وكثرة المداهمات والاعتقالات؛ وإلى أعمال عنف من طرف المستوطنين تجاه البشر والممتلكات، وغيرها من العواقب.
ويحصل أحيانًا أنّ الخطوات المُتّخذة لتقوية القانون الإسرائيليّ ما وراء الخطّ الأخضر تفتح بابًا لتحسين حالة حقوق الفلسطينيّين. من أبرز هذه الحالات هي قرار صدر عن تشكيلة واسعة من قضاة محكمة العدل العليا، ينصّ على أنّ تدابير حماية قوانين العمل الإسرائيليّة التي تنطبق على المُستوطنين تنطبق أيضًا على الفلسطينيّين الذين يعملون في المُستوطنات، وأنّهم مخوّلون بالمطالبة بحقوقهم من مشغّليهم الإسرائيليّين. هناك أمثلة قليلة فقط على مثل هذه الخطوات، وذلك لأنّ السّياسة الإسرائيليّة لا تبحث عن تقليص الفجوات بين المجموعتين السّكانيّتَين اللّتين تسكنان في الضّفّة الغربيّة.
الاحتلال والضّمّ – دون حقوق إنسان
رسميًّا، تعمل إسرائيل في الضّفّة الغربيّة بحسب القانون الإنسانيّ الدّوليّ الذي ينطبق على أراضٍ احتُلَّت في حالة حرب. هذه القوانين معرّفة على أنّها “توجّه قتاليّ مؤقّت”، ومن المفترض أن تسمح لسكّان المكان المُحتلّ بأن يستمرّوا في حياتهم العاديّة رغم وجودهم تحت احتلال عسكريّ مؤقّت، وأن تحمي حقوق الإنسان الأساسيّة لديهم في ظلّ غياب حماية من طرف قوانين الدّولة.
السّلطات الإسرائيليّة المسؤولة عن تنفيذ هذه القواعد تخفق في مهمّتها. لا تقوم السّلطات بالكثير من الواجبات الأساسيّة المنصوص عليها في قوانين الاحتلال، وتخرق الحظر القائل بعدم نقل سكّان الدّولة المُحتلَّة إلى داخل الأراضي التي تحتلّها. تستخدم إسرائيل القوّة المُعطاة لها في إطار قوانين الاحتلال بهدف توسيع السّيطرة الإسرائيليّة -التي يفترض أنّها مؤقّتة- وإبعاد السّكان الفلسطينيّين وترحيلهم عن الأماكن التي ترغب بضمّها، الآن أو في المستقبل.
كذلك، تستخدم إسرائيل الموارد الطّبيعيّة في الأراضي المُحتلّة لصالح المُجتمع الإسرائيليّ على جانبيّ الخطّ الأخضر، وهو أمر ممنوع بحسب القانون الإنسانيّ الدّوليّ. تصحب إسرائيل ذلك بتقييد استخدام الفلسطينيّين للموارد ذاتها. على سبيل المثال، تُشغّل شركات إسرائيليّة بعض مقالع الحجارة في الأراضي المُحتلّة وتجني أرباحًا طائلة منها، في حين يقوم الجيش بإغلاق مقالع يُشغّلها الفلسطينيّون. كذلك، فإنّ إمكانيّة وصول الفلسطينيّين إلى مصادر المياه، كالآبار والمياه الجوفيّة في الجبال، محدودة، في حين أنّ إسرائيل تستغل هذه المصادر لصالح المُستوطنات ولصالح بلدات أخرى داخل إسرائيل.
نتاج كلّ ذلك هو أنّ الإطار القضائيّ لقوانين الاحتلال يُستغلّ في الضّفّة الغربيّة بهدف فرض السّيطرة على السّكّان وعلى الأراضي، دون تحمّل المسؤوليّة النّاجمة عن ذلك، ويصحب ذلك انتهاك ممنهج لحقوق الإنسان.
على المنوال نفسه، يُستغلّ إطار القانون الإسرائيليّ في القدس الشّرقيّة بهدف فرض السّيطرة على السّكّان وعلى الأراضي، دون تحمّل المسؤوليّة الكامنة في القانون، ويصحب ذلك انتهاك ممنهج لحقوق الإنسان.
لأوّل وهلة، قد يبدو أنّ فرض القانون الإسرائيلي على شرقي المدّينة وإعطاء الهويّة الإسرائيليّة قد يضمنا للسّكّان هناك الحقوق والحرّيّات التي تضمنها قوانين دولة إسرائيل، والتي لا وجود لها في إطار قوانين الاحتلال. إلّا أنّ السّياسة التي طُوِّرَت في القدس الشّرقيّة تشبه إلى حدّ كبير المعاملة التي يحصل عليها الفلسطينيّون القابعون تحت الاحتلال العسكريّ في الضّفّة، إن لم تكن مماثلة تمامًا. فالأحياء الفلسطينيّة في القدس مُهملة من جميع الجوانب، وتعاني من بنى تحتيّة متداعية، وجهاز تعليم مُتخلّف وغياب في التّطوير. يُضطرّ سكّان القدس الفلسطينيّون إلى التّعامل مع بيروقراطيّة تتّسم بالعدوانيّة، ومع شرطة تمارِس العنف البالغ ضدّهم.
وقد تكون الأحياء المقدسيّة التي بقيت على الجهة الأخرى من جدار الفصل، في منطقة التّماس بين القدس والضّفّة، أكثر الأمثلة تطرّفًا على فشل الضّمّ في القدس، إذ رغم أنّها مناطق من المفترض أنّها تقع تحت السّيادة الإسرائيليّة، فإنّ السّلطات الإسرائيليّة تتنصّل من كامل المسؤوليّات هناك، ممّا أنتج منطقة محرّمة لا بلديّة فيها، ولا شرطة ولا سلطة.
نجد في الأراضي المُحتلّة اليوم حالة انتقاليّة من “الاحْتِضَمّ” – الاحتلال والضّمّ معًا. ورغم الفروق بين أنواع السّيطرة القائمة في مناطق مختلفة في الضّفّة الغربيّة والقدس الشّرقيّة، فإنّ السّيطرة الإسرائيليّة في الواقع، بمختلف أشكالها وصورها، غير مصحوبة بتحمّل مسؤوليّة كما هو مطلوب ممّن يملك القوّة بين يديه. فالسّكّان الفلسطينيّون -كأفراد وجماعات- ممنوعون من ممارسة حقوقهم الأساسيّة، وذلك منذ 49 عامًا.
قطاع عزّة
تغيّر نِطاق ودرجة سيطرة إسرائيل على قطاع غزّة على مرّ السّنين، ومنذ فكّ الارتباط في العام 2005، لم تعد إسرائيل تفرض سيطرتها الفعليّة على قطاع غزّة. مع ذلك، ما زالت إسرائيل تُمارس سيطرتها اليوم في عدد من المجالات الجوهريّة، وعلى رأسها السّيطرة على تحرّك البشر والسِّلَع، وعلى الحيّزَين البحريّ والجويّ، وعلى السّجلّ السّكانيّ وعلى الغلاف الضّريبيّ. إنّ طريقة سيطرة إسرائيل على حدود القطاع تنتهك بفظاعة حقوق الإنسان الأساسيّة وحريّة ما يزيد عن مليون شخص يسكنون في القطاع، وتؤثّر تاُثيرًا بالغًا على الاقتصاد والفقر في غزّة.
ومع أنّ مكانة القطاع القانونيّة هي محطّ جدل مُحتدم، لا يشكّك أحد في أنّ سيطرة إسرائيل بهذه الطّريقة لها تأثير بالغ. إنّه نوع سيطرة تنجم عنه مسؤوليّات، وهي مسؤوليّات تتنصّل منها إسرائيل اليوم باختيارها سياسة تفرقة قصوى بخصوص قطاع غزّة.