المحامية رَغَد جرايسي *
وُلدت لعائلة محبّة للّغة – الأب مهندس وسياسيّ، هاوٍ ومحبٍّ للأدب؛ والأمّ –محاضرة، كاتبة وباحثة في مجال ادب الأطفال والادب الشعبي . لم اتجاوز السنة والنصفّ حين تعلّمت قراءة كلماتي الأولى بواسطة بطاقاتٍ كبيرة (بيضاء كتب عليها بالخطّ الأحمر العريض) اعدّها والداي: “بابا، ماما، وطبل” (كلمات مهمّة جدًّا لطفلة صاخبة جدًّا)!
وهكذا، بدأت علاقتي بالكتب منذ سنّ صغيرة. كنت (ولا زلت) اقرأ العديد من الكتب بالكثير من للّهفة. لا زلت أذكر رحلاتنا العائليّة إلى عمّان ، وعودتنا محمّلين بجرعاتٍ (زائدة احياناً) من الكتب العربيّة القيّمة غير المتوفّرة في بلادنا نظراً للأوضاع السياسيّة والبعد الجغرافي والثقافي عن العالم العربي. عندما كنت في الخامسة من عمري ألّفت (بالاستعانة “بصديقة” – امي في ذلك الوقت) كتابي الأوّل أمّا قصيدتي الأولى فقد نظمتها في الصفّ الأوّل – ربّما الثاني.
عندما احترت في اختيار موضوع الدراسة في الجامعة، قيل لي مرارًا وتكرارًا من قبل الاهل والأصدقاء، كم تلائمني مهنة المحاماة، بسبب اتقاني للّغة وقدراتي التعبيريّة. كانت هنالك مشكلة واحدة مع هذه “التّوصيات”: اللّغة التي كنت اتقنها لم تكن هي لغة التدريس في الجامعة، ولن تكون الأداة الأساسية التي سوف أستخدمها في حياتي المهنيّة كمحامية.
مشكلة صغيرة لشابّة يافعة – مشكلة كبيرة لامرأة ناضجة.
كانت بداية دراسة الحقوق في الجامعة العبرية في القدس حدثًا مثيرًا وصعباً في نفس الوقت. لم يحدث من قبل أن استصعبت خوض محادثة؛ كنت أخجل من طرح الأسئلة في الصّف؛ اسْمي القصير جدًّا والسّهل جدًّا (رَغَدْ) أضحى حاجزًا يعيق مشاركتي في الصفّ ويصعّب عليّ الاختلاط مع زملائي على مقاعد الدّراسة ؛ كان المحاضرون يلاقون صعوبة كبيرة في لفظ اسمي، ناهيك عن حفظه؛ وكان عليّ في كلّ مرّة أن أواجه من جديد نظرات الاستغراب في عيون المحيطين بي.
أنا، التي لطالما افتخرت بقدرتي الفطريّة على تشكيل الكلمات دون أن أعرف كيف ولماذا، بتُّ الآن أخطئ في أبسط الأمور: التمييز بين تثنيَة المؤنّث وتثنية المذكّر في اللّغة العبريّة؛ أتعثّر في الحديث، تضيع منّي الكلمات العبريّة مرّة تِلوَ أخرى؛ أقرأ ببطء (وبحذر)؛ وأكتب بخطّ عديم الشخصيّة يدنو من البدائيّة.
منذ ابتداء الدّراسة، طوّرت شخصيّتين منفصلتين: الأولى، شخصيّة امرأة عربيّة فلسطينيّة، مزهوّة، صاخبة، تهوى الكتابة، وشغوفة بكلّ ما يتعلّق بالأدب والشأن الثقافيّ؛ والثانية: امرأة عربيّة مواطنة في إسرائيل، كثيرة الابتسام قليلة الكلام، وتتهرّب في أحيان كثيرة من خوض حديث مع زملاء الدّراسة في مواضيع الفنّ والأدب والثقافة.
في الصّدْع الناجم بين شقّي هذه الازدواجيّة، يخلَق “نشاز” (dissonance) تُعايشه كلّ امرأة فلسطينيّة (ورجل) في البلاد: نشازٌ هو نتاج فضاء عامّ “معقّم”، مطهّر من اللّغة العربيّة. هكذا هو الأمر حتى داخل المؤسسات الاكاديميّة التي تشقّ طريق التنوير والحداثة في العالم. هذا النشاز هو نتاج نظام حُكم عنصريّ إقصائيّ، في دولة قوميّة حاربت ولا تزال تخوض حروبها ضدّ “العدوّ الدّاخلي” – الأقلّية الفلسطينيّة في إسرائيل.
لا ينفكّ هذا النّشاز يعلو ويتفاقم بفعل مساعٍ كثيرة – حكوميّة: مثل “قانون القوميّة”، وغير حكوميّة – تمسّ فيما تمسّ باللّغة العربيّة، وبالتالي بمكانة الثقافة والهويّة العربيّة الفلسطينيّة في البلاد.
غير أنّنا، مع كلّ مسعًى ينحو إلى إقصاء اللّغة والهويّة والثقافة العربيّة إلى الهامش – موضحًا للمواطنين الفلسطينيّين أنّهم مواطنون من الدّرجة الثّانية، يصلبّ عودُنا أكثر، وتتبلور هويّتنا أكثر فأكثر، ونندفع بقوّة اكبر إلى المزيد من الإبداع الثقافي – في اللّغة والفنّ والأدب. إنّها مهمّة صعبة ومحفوفة بتحدّيات غير قليلة – لكن، هكذا هي حياتنا في الدّولة، هكذا كانت، وهكذا ستبقى: محفوفة بالتحدّيات والمصاعب.
كلّ سعي كهذا، نحو إقصاء المواطنين العرب إلى الهامش، يخطو خطوة أخرى نحو انهيار المنظومة الديمقراطية الليبراليّة، ويمسّ بالثقافة والهويّة واللّغة، وبحقوق الأساس للمواطن العربي في اسرائيل
كل سعي كهذا هو محاولة أخرى فاشلة لفرض اندماج العرب في الحيّز العام عن طريق قمع هويّتهم الثقافية والوطنيّة.
* المحامية جرايسي، مديرة وحدة حقوق الأقلّية العربيّة في جمعيّة حقوق المواطن.