المحامي عوني بنّا
ما يربو على الثلاثين ألف طالب وطالبة لم يفتتحوا السنة الدراسية بسبب إضراب المدارس العربية الأهليّة التابعة للكنائس، إلا أن هذه الحقيقة لم تقلق مضاجع وزارة التعليم الإسرائيلية التي ادّعت مع افتتاحيّة العام الدراسيّ أنّ التّعليم قد انتظم كالمعتاد. على الرغم من المفاوضات التي انطلقت بعد دخول الاضراب يومه السادس عشر، إلاّ أنّ هناك أمراً واحدًا واضحًا: لم يكن ذلك ليطول هكذا لو دار الحديث حول طلاّب يهود. الحكومة التي لا تبدو قلقة على نحو خاصّ إزاء هذا الإضراب، ابدت اهتماما بالغا وسارعت للعمل قبل ثلاثة أعوام حين برز احتمال توقّف عمل روضات شبكة التعليم الديني “معيان هحينوخ هتوراني” اليهودية بسبب صعوبات مالية. صرّحت الحكومة حينها بوجود مصلحة “قوميّة” واضحة في مواصلة عمل الروضات وبالتالي تمّ إمدادهن بملايين الشواقل تجنّبًا لانهيارهن.
ولكن ليس بالغريب تجاهلها التام على مدار اكتر من اسبوعين لخطر إغلاق المؤسسات التعليميّة العربيّة من نفس نوع – المؤسسات المعترف بها غير الرسميّة، وبعدم صدور حتّى صوت واحد منها ينادي بوجود مصلحة هامة بتفادي هذا الخطر. في ظلّ الحالة المزرية التي يعاني منها جهاز التربية والتعليم العربيّ وفي ظلّ الدّور المهمّ الذي تلعبه المؤسسات المضربة في حياة الأقليّة العربيّة في الماضي وفي الحاضر، فإنّ التجاهل الحكوميّ صارخ وواضح وضوح الشمس. ثمّة علاقة وطيدة تربط بين موقف الحكومة هذا وبين التمييز التاريخيّ في حقّ الجمهور العربيّ في سياق التعليم الرسميّ وبوجٍه عام. يتجلّى التمييز، الذي يشكّل حقيقةً معروفة وموثّقة جيدًا، من ضمن الأمور الأخرى، في نقص آلاف الصفوف، والاكتظاظ العالي في الصفوف، وفي تخصيص ساعات تعليميّة بشكل غير متساو، وفي التحصيلات الدراسيّة متدنيّة المستوى.
في هذا الواقع، وبدون الانتقاص من واجبها بالعمل على إلغاء التمييز وتحسين التعليم الرسميّ، يُتوَقع من الحكومة ألاّ تراكم الصعوبات في وجه الطلاب العرب المندمجين في التعليم المعترف به غير الرّسمي، سواء بغية الخروج من دائرة التمييز وزيادة فرص النجاح، أو لغياب الخيارات وغياب أطر رسميّة متاحة. نود التذكير، على سبيل المثال لا الحصر، بوضع آلاف الطلاب العرب في نتسيرت عيليت، والتي ترفض البلديّة إقامة مدرسة عربية رسميّة حفاظًا منها على “الطابع اليهوديّ” للمدينة. يدرس هؤلاء الطلاب في الناصرة، وعندما لا تعود الأطر الرسميّة في الناصرة تفي باحتياجات طلابها ، لا خيار لأغلبيّتهم إلاّ الاندماج في المدارس الأهليّة. هؤلاء الطلاّب هم مجرّد مثال على الطريقة التي تتنصّل فيها الدولة من واجبها في توفير جودة تعليم عالية ومساوية للطلاب العرب.
مسؤوليّة الدولة الأخلاقيّة والقانونيّة الاهتمام بأن تواصل المدارس الأهليّة العمل وفق الصيغة التي تضمن التعليم المتاح لآلاف الطلاب العرب. ويلزم هنا التشديد على ان ميزانيّات هذه المدارس هي في الاصل متدنيّة مقارنة مع ميزانيّات المؤسسات اليهوديّة التابعة لنفس النوع، وفي الأساس تلك التابعة للتعليم الدينيّ والحريدي. تفضيل المؤسسات اليهودية هذه يسمح بتمويلهم الكامل وهو مثبت في بعض القوانين وينبع ايضا من الاتفاقيّات الائتلافية وصفقات تخصيص الميزانيّات المتأصلة والملتوية والتي يفرضها نفوذهم السياسيّ. عندما يتمّ تحديد سلّم الأولويّات في التمويل وفق الوزن السياسيّ، يكون العرب دائمًا في أسفل الدّرك.
يحقّق استمرار وجود المدارس الأهليّة وضمان قابلية الالتحاق بها قيمة أخرى لا تقل أهمية: منح الأقلية العربية إمكانيّة الاختيار بين المدارس. التمييز المتأصّل وانتهاك الالتزام الأساسيّ بتوفير الأطر الرسميّة، يُنسِيان بأنّ امتحان المساواة الحقيقيّ بالنسبة إلى الأقليّة يكمن في تحقّق المساواة في بدائل التعليم المتاحة وفي قابلية الوصول إليها، مساواة تساهم في ممارسة الحق القانوني في التعليم. عندما يدور الحديث عن أقليّات قوميّة وثقافيّة يُمارس ضدّها التمييز، فإنّ احترام حقّ التعليم يجب أن يتجسّد ايضا من خلال توفير التمويل الحكومي للتعليم في مدارس وتيارات تعليمية مختلفة. الأمر يسري مفعوله خصوصا في ظلّ الافضلية الممنوحة للجمهور اليهوديّ في قوانين التعليم وفي الثقافة السياسيّة الاسرائيلية فيما يخصّ تيارات وأنواع التعليم المتاحة امام هذا الجمهور دون سواه والتي تتمتّع بتمويل حكومي.
النزاهة والعدل يُلزمان الحكومة الإسرائيلية بالعمل بحزم من أجل إيجاد حلّ وتخصيص ميزانيات تضمن استمرار عمل المؤسسات التابعة للكنائس ومساواتها فيما يخص التمويل الحكومي. الحكومة مطالبة بتحويل محنة هذه المؤسسات إلى فرصة للتكفير عن خطاياها بحق التعليم العربي.
*المحامي عوني بنّا، مدير قسم حقوق الأقلية العربية في جمعية حقوق المواطن.