الخصخصة الضمنيّة- سياسات الإسكان في إسرائيل

المحامي غيل غان-مور من جمعية حقوق المواطن

في الأشهر الأخيرة وصلت أزمة الإسكان إلى مستويات غير مسبوقة، وبدأت تستحوذ على اهتمام واسع من قبل وسائل الإعلام والدوائر السياسية. يغيب عن النقاش العام الذي يدور في هذه الأيام تحليل مهم لسياسة الحكومة التي خلقت هذه الأزمة، ولا تطرح مقترحات لتطبيق سياسة حكومية مغايرة من شأنها إعادة سوق الإسكان إلى مساره العقلاني. سأحاول – في هذه المقالة- التوقّف عند هذين العاملين، وعند العلاقة بين سياسة الخصخصة التي اجتاحت إسرائيل في العقدين الأخيرين وبين أزمة الإسكان.

عندما نتحدث عن الخصخصة، غالبا ما تتبادر في أذهاننا عدد من الحالات: بيع شركات حكومية إلى القطاع الخاص ( نحو: شركتي “إل – عال” و”بيزك”)؛ وتنفيذ نشاطات حكوميّة بواسطة متعهدين من القطاع الخاص،والتعهيد (outsourcing) ( نحو: جمع القمامة)؛ أو إقامة وإدارة هياكل تحتية عامة بواسطة مبادرين أفراد ( نحو: شارع رقم 6).

في بعض الأحيان لا يجري تنفيذ الخصخصة بواسطة البيع أو العطاء أو التّرخيص، بل من خلال تقليص نشاط السلطة والمتمثل في تقليص في الميزانيات أو تغيير القوانين والمرسومات، على الرغم من عدم تغيّر الطلب على الخدمة العامة. تُطلق البروفيسور دَفناه بَراك- إيرِز على هذا النوع من الخصخصة اسم ” الخصخصة الضمنيّة”.

يمكن لـــ “الخصخصة الضمنية” أن تتجسّد في الامتناع عن تمويل احتياجات طارئة، أو إيقاف دعم أو تمويل خدمات مختلفة، بحيث يصبح الحصول عليها مقرونا بتسديد مبالغ مالية لأجسام خاصّة تدخل إلى الصورة لتوفير هذه الخدمة. وهذا ما حصل في قطاعيّ التعليم والصحّة.

سياسة الإسكان الإسرائيلية كمثال على الخصخصة الضمنيّة

ترى دولة إسرائيل نفسها ملزمة باحترام الحق في المسكن، وهو أحد الحقوق المدرجة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي المعاهدة الدولية حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإسرائيل طرف فيهما. في العقود الأربعة الأولى لقيامها تعاملت إسرائيل مع تخصيص المساكن الشعبية، ودعم قروض الإسكان كجزء لا يتجزأ من واجباتها تجاه مواطنيها. تميّز الإسكان العام في تلك الحقبة باتساعه، ووصل في ذروته إلى حوالي ربع مخزون الشقق. حتى تسعينيات القرن الماضي شكّلت مصارف قروض الإسكان ذراعا حكوميا لدعم قروض الإسكان المقدّمة لقطاع واسع من الناس.

في العقد الأخير تراجعت الدولة على نحو دراماتيكي عن تداخلها في مجال الإسكان، وعمدت إلى تحويل مركز الثقل إلى السوق الخاصّة.

تشير دراسة أعدّتها جمعية العدل التوزيعي إلى تراجع ميزانية وزارة الإسكان على نحو حاد، إذ وصلت حصة هذه الميزانية من مجمل ميزانية الدولة في العام 1999 إلى 4.5% لكنها تراجعت في العام 2008 لتصل إلى 1.6%. في العام 2001 وصلت ميزانية دعم الإسكان للشرائح ذات الاستحقاق إلى 7.3 مليار شيكل، وتراجعت إلى 3.3 مليار شيكل في العام 2008، ويتوقّع أن تصل في سنة الموازنة القادمة إلى 2.7 مليار شيكل فقط.

اتساع الفجوات بين الأغنياء والفقراء

تجسّد التقليص في الميزانية في مواضيع عدّة: رفعت دولة إسرائيل لسنوات عديدة شعار مساعدة الفئات المسحوقة على اقتناء الشقق، لكنها قامت في العام 2003 بإلغاء المنح التي حصل عليها مقتني الشقق في مناطق الأفضليّة القومية، مما أدى إلى تراجع بنسبة 65% في استنفاد قروض الإسكان في مناطق الأطراف. علاوة على ذلك فقد  جرى في العقد الأخير تقليص ميزانية دعم شراء الشقق من 5.6 مليار شيكل إلى 1.3 مليار. في المقابل فقد ارتفعت أسعار الشقق بنسبة كبيرة بسبب النّقص المتواصل في الشقق، مما دفع إلى تراجع متواصل في نسبة امتلاك الشقة في السنوات الأخيرة ( من 73% في العام 1995 إلى 66% في العام 2008). في هذه الأثناء تمكّنت الطبقات الميسورة التي تملك شقة خاصة من شراء شقة أو شقتين إضافيتين بهدف الاستثمار. وبالتالي فقط اتسعت الفجوات بين الأغنياء والفقراء.  

إلى ذلك فقد جرى إهمال الإسكان الشعبي، وتمّت خصخصة حوالي 20,000 شقة  عندما بيعت للسكان الذين قطنوها، وهي خطوة جدّ سليمة، لكن المبالغ المالية التي تحصّلت من بيع هذه الشقق لم تُستثمر في تحديث المخزون، وجرى إيقاف الميزانيات العادية  المعدّة لهذا التحديث. توقفت الدولة عن بناء الشقق الشعبية المعدة للإيجار المدعوم، وتراجع مخزون الشقق إلى 66,000 شقة فقط، أي ما نسبته 3% من مجموع الشقق. كثيرة من هذه الشقق تعاني من حالة مزرية.

 

في غياب الإسكان الشعبي، يذهب أصحاب الاستحقاق للبحث على شقة في السوق الخاص. في هذا الواقع الجديد خُصص نصف ميزانية المساعدة في الإسكان للمساعدة في أجر الشقق. وهي تمنح اليوم إلى 140 ألف عائلة.  على الرغم من ذلك فإن سوق  الشقق المعدة للإيجار غير منظّم، ولا يجري الإشراف على أسعار الإيجار، ويواجه مستحقو المساعدات صعوبات في تحقيق استحقاقاتهم، بسبب تدني مبالغ المساعدة وعدم ملاءَمتها لأسعار إيجار الشقق، ويضطرّ بعضهم الانتقال إلى مناطق الأطراف حيث تقلّ مصادر كسب لقمة العيش، أو إلى تجمّعات الفقر على أطراف المدن التي ما تزال إيجارات الشقق فيها متدنية. في هذه الحالة أيضا تدفع “الخصخصة الضمنية” إلى الإقصاء الاجتماعي، وإلى خلق حيّز متقطّب يرسّخ الفجوات بين الأغنياء والفقراء.

ربما قلّصت الخصخصة الضمنية العبء الملقى على كاهل الحكومة، لكنها خلقت أضرارا اجتماعية بالغة تنعكس اليوم في أزمة الإسكان التي تشمل قطاعات سكانية واسعة، وفي تعزيز التقطب، والفجوات الاجتماعية. تحول المسكن من حق إلى منتجٍ. أما الثمن الحقيقي فيدفعه من لا يملكون الوسائل المادية.

مواجهة الخصخصة

ثمّة في السنوات الأخيرة نقاش متيقّظ حول الخصخصة واستحقاقاتها، وتُطرح غفي خضمّه أسئلة مهمّة تستوجب نقاشا متعمّقا نحو هل من اللائق أن تقوم الحكومة بنقل صلاحيات ووظائف منَحَها إياها الجمهور إلى الشركات الخاصة، ومتى يمكنها القيام بذلك. وحتى من يدعم الخصخصة، سيوافق بالتأكيد على ضرورة أن تحترم هذه الخصخصة حقوق الإنسان، وان يجري من خلالها تقليص الفجوات الاجتماعية، وضرورة أن تضمن رفاهية الجميع على قدم المساواة.  

لكن الخصخصة لم تترافق مع سياسات إسكانية واضحة وشفافة يجري إرساءها بتشريعات رئيسيّة. لم تجر مراجعة لائقة لإسقاطات الخصخصة على الفئات الفقيرة، ولم تُفحَص بدائل للمساعدات التي قدّمتها الدولة على نحو مباشر. فعلى سبيل المثال، تواصل وزارة الإسكان رفع شعار مساعدة العائلات ذات الدخل المتوسط والمتدني في الوصول إلى مسكن بأسعار تلائم قدراتها، لكن ما حصل هو تراجع حاد في المساعدة التي قُدّمت لهذه الشريحة السكانيّة. علاوة على ذلك فقد امتنعت الحكومة عن الشروع في بناء مساكن شعبية جديدة، وتعتمد -عوضا عن ذلك- على القطاع الخاص كي يوفّر المساكن للجميع، لكن ما يُبنى اليوم هي الشّقق الواسعة وباهظة الثمن التي لا تلائم  الناس ذوي الدخل المتوسط والمتدني. بالإضافة إلى ذلك فإن سوق الإيجار لا يوفّر السكن المضمون للأمد البعيد. تتولّد إذا حالة قطبية في الإسكان،وتتضخّم تجمعات الفقر.  

كل هذه الأمور ليست قضاء وقدرا، وحتى في الحالات التي تقرّر فيها الحكومات تقليص استثمارها المباشر في سوق الإسكان، فثمّة ما يكفي من السبل لتطبيق سياسة إسكان معقولة، من خلال ترتيبات مُلزمَة للسوق الخاصة. يُمكن- على سبيل المثال- إلزام المصارف تقديم الاعتماد الملائم للعائلات من الطبقات المتوسطة والدنيا، والاستثمار في المجتمعات المحلية التي تعمل هذه المصارف داخلها. هل يبدو الأمر ضرباً من الخيال؟ هذا بالضبط ما يحدده قانون أمريكي يسمى بـ Community Reinvestment Act.  ثمّة إمكانية لخلق نوع جديد من الملكية يُسمّى “الملكية مشتركة”. تمكّن  هذه ذوي الدخل المتدنّي من شراء جزء من الشقة، حتى لو لم يكن بحوزتهم رأس مال أولي مرتفع. لاحقا تستطيع العائلة شراء أجزاءَ إضافيّة من الشقة. جرى تطبيق هذه الطريقة في إنجلترا.    

تستطيع الدولة كذلك تقديم مُحفّزات وتسهيلات في الأراضي للمبادرين الذين يخصّصون نسبة من شققهم للإسكان سهل المنال، ويمكنها فرض بناء شقق أصغر، ومساكن للإيجار بسعر مدعّم، أو تغريم المبادر الذي يهدم الشقق الرخيصة القائمة. هل يعتبر الأمر تدخلا فظاً في السوق؟ قطعا. تقوم بعض الدول المتطوّرة بتنظيم الإسكان سهل المنال والإسكان  الاجتماعي في مواجهة الإقصاء الاجتماعي والتقطب في المدن.

تستطيع الدولة تنظيم سوق الإيجار، وضمان الإيجار طويل الأمد بشروط آمنة، والإشراف على عدم تعرّض المستأجرين لارتفاعٍ سنويٍ حادٍ في الأسعار. لكن الدّولة لا تحرّك ساكنا في هذا المِضمار.

في خلاصة الأمر، وكما يحق للدولة خصخصة خدمة معيّنة دون التأكد من أن الجسم الخاص الذي سيتولى تقديمه سيحافظ على المساواة، والمتناولية، والأهداف الاجتماعية، ينسحب الأمر على “الخصخصة الضمنيّة”. لا تستطيع الدولة التوقّف عن النشاط في مجالٍ حيويٍ كالإسكان دون ضمان عدم المساس بالفئات المسحوقة. من مدعاة الأسف أن حكومتنا لم تقم حتى الآن بإرفاق مسارات موازية لخصخصة الإسكان، تلك التي تضمن الإسكان اللائق والمتاح للجميع، وتضمن تحقيق الأهداف الاجتماعية التي وضعتها بنفسها. نأمل أن تسلك هذه الحكومة مسلكا جديدا، وعلى وجه السرعة.

Share and Enjoy:
  • LinkedIn
  • Twitter
  • Facebook
  • Print
  • email

קטגוריות: الحق في المسكن اللائق, الخصخصة, حقوق اجتماعيّة, حقوق الأقلية العربية

مفتاح :.

Comments are closed.